الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
شروط لباس خرقة الفتوة: والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث وأداء الأمانة وأداء الفرائض واجتناب المحارم ونصر المظلوم وصلة الأرحام والوفاء بالعهد أو كانت مستحبة كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله وأن يجتمعوا على السنة ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية إن كلاً منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل ويعادي عدوه في الحق والباطل وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال وهي شروط ليست في كتاب الله وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق " رواه البخاري. وفي السنن عنه أنه قال: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً " وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين ما كان من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله وإن كان مما نهى عنه ورسوله فإنه ينهى عنه كما نهى الله عنه ورسوله وليس لبني آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بني آدم كما قال الله تعالى: " وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية وهي شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقوداً أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه.
الفتى والفتوة والزعيم والحزب والدسكرة وما قالوه فيها: وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: " وقوله تعالى: " ومنه قوله تعالى: " وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى: " وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمراً بالجماعة والائتلاف ونهياً عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمه وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ". وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح عنه أنه قال: " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله ". وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قيل: يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً قال: " تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ". وفي الصحيح عنه أنه قال: " خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشتمه إذا عطس ويجيبه إذا دعاه ويشيعه إذا مات ". وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخواناً ". وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثاً أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وإن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وإن تناصحوا من ولاه الله أمركم ". وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " قالوا: بلى يا رسول الله قال: " صلاح ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين " فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها. وأما لفظة الدسكرة فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة فيتعلق بها حمد أو ذم ولكن هي في عرف الناس يعبر عنها عن المجامع كما في حديث هرقل أنه جمع الروم في دسكرة ويقال للمجتمعين على شرب الخمر أنهم في دسكرة فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم وهو إلى الذم أقرب لأن الغالب في عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم لكنه من فروض الكفايات فإن قام من
مم خلق النبي صلى الله عليه وسلم وبم تتفاضل المخلوقات: والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خلق مما يخلق منه البشر ولم يخلق أحد من البشر من نور بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت منه فقط بل قد يخلق المؤمن من كافر والكافر من مؤمن كابن نوح منه وكإبراهيم من آزر وآدم خلقه الله من طين فلما سواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء وبأن خلقه بيديه وبغير ذلك فهو وصالحوا ذريته أفضل من الملائكة وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين وهؤلاء من نور وهذه مسألة كبيرة مبسوطة في غير هذا الموضع فإن فضل بني آدم هو بأسباب يطول شرحها هنا وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار " وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام وعلا على مقامات الملائكة والله تعالى أظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحي الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات فخلق بدنه من الأرض وروحه من الملأ الأعلى ولهذا يقال هو العالم الصغير وهو نسخة العالم الكبير ومحمد سيد ولد آدم وأفضل الخلق وأكرمهم عليه ومن هنا قال من قال إن الله من أجله العالم أو إنه لولا هو لما خلق عرشاً ولا كرسياً ولا سماءً ولا أرضاً ولا شمساً ولا قمراً لكن ليس هذا حديثاً عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا صحيحاً ولا ضعيفاً ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل ولا يعرف عن الصحابة بل هو كلام لا يدرى قائله ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: " وسيد ولد آدم هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم آدم فمن دونه تحت لوائه قال صلى الله تعالى عليه وسلم: " إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها هو الجامع لما فيها وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقاً ومحمد إنسان هذا العين وقطب هذه الرحى وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات فما ينكر أن يقال أنه لأجله حلقت جميعها وإنه لولاه لما خلقت فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة قبل ذلك. وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض المخلوقات في شيء من الربوبية كان ذلك مردوداً غير مقبول فقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " وقد قال تعالى: " وقال تعالى: "
وأما المؤاخاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة حتى أنزل الله تعالى: " والثاني: أن ذلك محكم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه. وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال أنه آخى بين أبي بكر وعمر وأنه آخى علياً ونحو ذلك فهذا كله باطل وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة وذلك نقل ضعيف إما منقطع وإما بإسناد ضعيف والذي في الصحيح هو ما تقدم ومن تدبر الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية الثابتة تيقن أن ذلك كذب. وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: " ومن قال إنه لم ينسخ - كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - قال: إنه مشروع. وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول: على المشاركة في الحسنات وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه ونحو ذلك فهذه كلها شروط باطلة فإن الأمر يومئذ لله هو " قاله أحمد بن تيمية الحراني. كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى العارف بالله الشيخ نصر المنبجي قال الراوي: كتاب كتبه الشيخ الإمام وحيد دهره وفريد عصره علامة زمانه ناصر السنة مؤيد الشريعة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني فسح الله تعالى في مدته وأعاد علينا من بركته إلى الشيخ القدوة أبي الفتح نصر المنبجي سنة أربع وسبعمائة. بسم الله الرحمن الرحيم: من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته وإرادته ومحبته حتى يظهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية وبين المؤمنين الصادقين الصالحين ومن تشبه بهم من المنافقين كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته. أما بعد فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً منزلة عليه ومودة إليه لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد فإن العلم والإرادة أصل لطريق الهدى والعبادة وقد بعث الله محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم بأكمل محبة في أكمل معرفة فأخرج بمحبة الله ورسوله هي أصل الأعمال المحبة التي فيها إشراك وإجمال كما قال تعالى: " ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني كما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " فجعل صلى الله تعالى عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقاً بمحبة الله ورسوله الفاضلة وبالمحبة فيه في الله وبكراهة ضد الإيمان. وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً " فجعل ذوق طعم الإيمان معلقاً بالرضى بهذه الأصول كما جعل الوجد معلقاً بالمحبة ليفرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين الذوق والوجد الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة وبين ما أمر الله به ورسوله وبين غيره كما قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل إذ كان كل من أحب شيئاً فله ذوق بحسب محبته ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: " قال الحسن البصري: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله فطالبهم بهذه الآية فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده وقد ذكرت نعت المحبين في قوله: " فالشيخ أحسن الله إليه قد جعل فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة عن المجملة المشتركة وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضاً في التوحيد قال الله تعالى في أم الكتاب التي هي مفروضة على العبد وواجبة في كل صلاة أن يقول: " وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في نسكه: " اللهم هذا منك وإليك " فهو سبحانه مستحق التوحيد الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين له دعاء العباد بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته ودعاء المسألة والاستعانة بالتوكل عليه والالتجاء إليه والسؤال له ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته وهو سبحانه الأول والآخر والباطن والظاهر. ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب فيقول المصلي والذاكر الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وكلمات الآذان: الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك. وفي السؤال: " ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والولي من يكون منازعاً للقدر لا من يكون موافقاً له. وهذا الذي قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية أي أن المسلم مأمور أن يفعل ما أمر الله به ويدفع ما نهى الله عنه وإن كانت أسبابه قد قدرت فيدفع الله بقدر الله كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض " وفي الترمذي قيل: يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً فقال: " هن من قدر الله " وإلى هذين المعنيين أشار الحديث الذي رواه الطبراني أيضاً عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " يقول الله يا ابن آدم إنما هي أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي. فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه وأما التي هي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين خلقي فأت الناس بما تحب أن يؤتوه إليك ". ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية أو توحيد أحدهما للعبد فيه ثلاث مقامات: والثاني مقام الجمع والفناء بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده وبمعبوده عن عبادته وبموحده عن توحيده وبمذكوره عن ذكره وبمحبوبه عن حبه فهذا فناء عن إدراك السوى وهو فناء القاصرين. وأما الفناء الكامل المحمدي فهو الفناء عن عبادة السوى والاستعانة بالسوى وإرادة وجه السوى وهذا في الدرجة الثالثة وهو شهود التفرقة في الجمع والكثرة في الوحدة فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها وأنه على كل شيء وكيل وأنه رب العالمين وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده لا خالق غيره و نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه ويشهد أيضاً فعل المأمورات مع كثرتها وترك الشبهات مع كثرتها لله وحده لا شريك له. وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء والإسلام العام والإيمان العام وبه أنزلت السور المكية وإليه الإشارة بقوله تعالى: " فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم " خير أمة أخرجت للناس " وبها أنزلت السور المدنية إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع وسنت السنن ونزلت الأحكام والفرائض والحدود فهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى والسكر وجد بلا تمييز فقد يقول في تلك الحال سبحاني أو ما في الجبة إلا الله أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء وكلمات السكر أن تطوى ولا تروى ولا تؤدى إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه. فأما إذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني فسكر الأجسام بالطعام والشراب وسكر النفوس بالصور وسكر الأرواح بالأصوات وفي مثل هذا الحال غلط من غلط بدعوى الاتحاد والحلول العيني في مثل دعوى النصارى في المسيح ودعوى الغالية في علي وأهل البيت ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي. فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " يقول الله: عبدي! مرضت فلم تعدني فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده عبدي! جعت فلم تطعمني فيقول: ربي كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي " ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أن جوع عبده ومحبوبه لقوله: " لوجدت ذلك عندي " ولم يقل لوجدتني قد أكلته ولقوله: " لوجدتني عنده " ولم يقل لوجدتني إياه وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضى أحدهما بما يرضاه الآخر ويأمر بما يأمر به ويبغض ما يبغضه ويكره ما يكرهه وينهى عما ينهى عنه. وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولهذا قال تعالى فيه: " وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة إن صح أن المسيح قالها فهذا معناها كقوله: أنا وأبي واحد من رآني فقد رأى أبي. ونحو ذلك وبها ضلت النصارى حيث اتبعوا المتشابه كما ذكر الله عنهم في القرآن لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وناظروه في المسيح. وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي " فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه. وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل وإن قرب الفرائض أن يكون هو إياه فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة فهذا القرب يجمع الفرائض والنوافل فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية أتباع الأنبياء والمرسلين. وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتاباً اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء ولم يكن القصد به والله واحداً بعينه وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين فعلينا أن نعينه في الدين والدنيا بما هو اللائق به وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم وقد كتبت في ذلك كتاباً ربما يرسل إلى الشيخ وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل والله تعالى يعلم وكفى به عليماً لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات - وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين - لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكشف أسرار الطريق وتهتك أستارها ولكن الشيخ أحسن الله تعالى إليه يعلم أن المقصود الدعوة النبوية بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل أن يكون الدين كله لله هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى: " وقال تعالى: " هؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين وذلك أن القسمة رباعية فإن كل واحد من الاتحاد والحلول إما معين في شخص وإما مطلق أما الاتحاد والحلول المعين كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة وفي المشايخ من جهال الفقراء والصوفية فإنهم يقولون به في معنى إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط وإما بالحلول وهو قول النسطورية وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية. وأما الحلول المطلق: وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانوا يكفرون بذلك. وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام فما علمت أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع مثل فرعون والقرامطة وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق وإن وجود ذات الله خالق السموات والأرض هي نفس وجود المخلوقات فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره ولا أنه رب العالمين ولا أنه غني وما سواه فقير لكن تفرقوا على ثلاثة طرق وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم لأنه أمر مبهم: الأول أن يقولوا إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية حتى ذوات الحيوان والنبات والمعادن والحركات والسكنات وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات فوجودها وجود الحق وذواتها ليست ذوات الحق ويفرقون بين الوجود والثبوت فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك ويقولون إن الله سبحانه لم يعط أحداً شيئاً ولا أغنى أحداً ولا أسعده ولا أشقاه وإنما وجوده فاض على الذوات فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك ويقولون إن هذا هو سر القدر وإن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجاً عن نفسه المقدسة ويقولون إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم وإنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها سبحانه فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد وإنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به الرسل ويقولون إنهم لم يعبدوا غير الله ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى وإن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه وإن قوله تعالى: " وإن موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل لضيقه وعدم اتساعه وإن موسى كان أوسع في العلم فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله وإن أعلى ما عبد الهوى وإن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله وفرعون كان عندهم من أعظم العارفين وقد صدقه السحرة في قوله أنا ربكم الأعلى وفي قوله: ما علمت لكم من إله غيري وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين وأقول إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون المنكر لوجود الخالق الصانع حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون نحن على قول فرعون وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات " ولا يقول أحد منهم أنه عين المخلوقات ولا نفس المصنوعات كما يقوله هؤلاء حتى أنهم يقولون لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله وهذا مركب من أصلين: أحدهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم كما يقوله كثير من المعتزلة والرافضة وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب والسنة والإجماع وكثير من متكلمة أهل الإثبات كالقاضي أبي بكر: كفر من يقول بهذا وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها وإنها مثبتة عنده في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن ظلم الله تعالى فإن مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سورة "
|